محند حمو
السبت، 15 يناير 2011
الدموع
والصلاة على الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أعرف الناس بربه واتقاهم واخشاهم لله।
ورضي الله على الاصحاب الاتقياء الاخيارالدين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم
اما بعد
احبتي لو تفكرت النفوس في مابين يديها ،وتذكرت حسابها فيمالها وعليها لبعث حزنها بريد دمها إليها آما يحق البكاء لمن طال عصيانه ُ، نهاره في المعاصي وقدطال خسرانه وليله في الخطايا، فقدخف ميزانه وبين يديه الموت الشديد فيه من العذاب ألوانه،
روى ابن عمررضي الله عنهما قال{ استقبل رسول الله صلى اللّه عليه وسلم الحجر فاستلمه ثم وضع شفتيه عليه يبكي طويلاً فالتفتَ فإذا هو بعمريبكي فقال ياعمر هاهنا تسكبُ العبراتُ}وقال أبوعمران الجوني بلغني ان جبريل عليه السلام جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فقال{يارسول الله مايُبكيكَ فقال أوما تبكي أنت فقال يامحمد ماجفت لي عين منذخلق الله جهنم مخافة أن أعصيه فيلقيني فيها}ويروى عن عمر رضي الله عنه كان له خطان اسودان من دموعه خوفا من ربه ،وبكى ابن مسعود رضي الله عنه حتى اخذبكفه من دموعه فرمى به ،وكان عبدالله بن عمريطفئ المصباح بالليل ثم يبكي حتى تلتصق عينيه رضي الله عنه ،وكذالك يروى عن السلف الصالح مالا يحصى من احوالهم في الخلوات خوفا وطمعا من خشية الله، وكان ابوعمران الجوني إذا سمع المؤذن تغيروفاضت عيناه ،وكان ابوبكرالنهشلي إذاسمع الاذان تغيرلونه وأرسل عينيه بالبكاء،وبكى مالك بن دينارحتى سود طريق الدموع خديه وكان يقول، لوملكت البكاء لبكيت أيام الدنيا ألامالعين لاترى قُلل الحمى ولا جبل الديّان الااستهلت لجوخ إذا الحبُّ بكى إذابكت قادت الهوى وأحلَّت إذا كانت القلوب للخوف وَرَقَّت رفَعَت دموعها إلى العين وقت فأعتقت رقاباً للخطايا رقًّت ،من لم يكن له مثل تقواهم لم يعلم ما الذي أبكاهم ،ياغافل الوقت كالسيف ان لم تقطعه قطعك كل يوم طلع فجره طويت صفحته كل يوم يناديك انا يوم جديد وعلى عملك شهيد ولن اعود إلى يوم الدين
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد .
الأربعاء، 12 يناير 2011
الفتوة
الفتوة في الإسلام ماذا تعني ؟
الحمد لله أحمده حمدا يليق بذاته , وأصلي وأسلم على رسول الله صلاة وسلاما تليقان بذاته الكريمة , أرحب بكم إخواني الأعزاء , وأدعو الله العلي القدير أن يفقهنا في ديننا , وأن يعلمنا ما ينفعنا , وأن ينفعنا بما علمنا , … آمين .
الفُتُوَّة في الإسلام ماذا تعني ؟
إليك أخي الكريم بعض المعاني التي أوردها أهل العلم في معنى الفُتُوَّة وهي كلمة جميلة, تحمل معاني سامية, وتَرِدُ في ثنايا كتب العلماء, ومنشآت الأدباء, ودواوين الشعراء.
هي كلمة تدور حول معاني الشهامة, والرجولة, والخدمة, والبذل, وما جرى مجرى ذلك من مكارم الأخلاق.
وكثيراً ما يثني الشعراء على ممدوحيهم بوصفهم بالفُتُوَّة , وكثيراً ما يذكرون الفُتُوَّة في معرض الإعجاب.
قال أبو تمام في رثاء محمد بن حميد الطوسي:
فتى مات بين الضرب والطعن ميتة تقومُ مقامَ النصرِ إذ فاته النصرُ (صحيح الأعشى 2/362) ,
وقال الشوكاني:
ومن حاز الفضائل غير وانٍ فذاك هو الفتى كل الفتاء (البدر الطالع 1/349)
وكلمة الفتيان أو الفتى عند الأوائل تعني الشهم, الكريم, السخي, البشوش, المتغاضي, الأَلُوف الذي يقوم بالخدمة بلا منة ولا تباطؤ.
ومن كانت هذه حاله كان جديراً بالمحبة, والاحترام, وكان ممن يُحرص على صحبته, والقرب منه.
وإذا جمع إلى ذلك حسنَ الديانة, وصلاحَ الأمر, ولزوم الاستقامة, وطلب العلم – بلغ من العلياء كل مكان.
وإذا قَلَّت الفُتُوَّة هبطت منزلته بقدر ما فقد منها ولو كان ذا علم واستقامة .
قال سفيان الثوري : ” من لم يتفتَّ لم يحسن يتقَّرى “.
قال الخطابي معلقاً على كلمة سفيان: ” إن من عادة الفتيان ومن أخذ بِأَخْذِهم بشاشةَ الوجه, وسجاحةَ الخلق, ولين العريكة “.
ومن شيمة الأكثرين من القراء سوء الخلق ؛ فمن انتقل من الفُتُوَّة إلى القراءة كان جديراً أن يتبقَ معه تلك الذوقةُ والهشاشة.
ومن تقرَّأ في صباه – أي طلب العلم- لم يَخْلُ من جفوة, أو غلظة.
وقد يتوجه قول سفيان إلى وجه آخر, وهو أنه إذا انتقل من الفُتُوَّة إلى القراءة كان معه الأسف على ما مضى, والندم على ما فَرُط منه ؛ فكان أقرب إلى أن لا يعجب بعمل صالح يكون منه .
وإذا كان عارفاً بالشر كان أشدَّ لحذره , وأبعد من الوقوع فيه ” ا- هـ. ( العزلة 1/89)
وقال سفيان الثوري :” لأنْ أصحب فتى أحبُّ إليَّ من أن أصحب قارئاً “المصدر السابق 1/89 .
وللإمام ابن القيم كلام جميل حول الفُتُوَّة في كتابه مدارج السالكين ؛ (2/340) حيث أفرد منزلة من منازل كتابه , سماها منزلة الفُتُوَّة , وأفاض في الحديث عنها بما لا تكاد تجده عند غيره .
ومما قاله في ذلك: ” ومن منازل: “إياك نعبد وإياك نستعين ” منزلة الفُتُوَّة .
هذه المنزلة حقيقتها هي منزلة الإحسان إلى الناس, وكف الأذى عنهم, واحتمال أذاهم؛ فهي استعمال حسن الخلق معهم؛ فهي – في الحقيقة- نتيجةُ حسنِ الخلق واستعماله.
والفرقُ بينها وبين المروءة أن المروءةَ أعمُّ منها؛ فالفُتُوَّة نوع من أنواع المروءة؛ فإن المروءة استعمال ما يجمل ويزين مما هو مختص بالعبد, أو متعدٍّ إلى غيره, وترك ما يدنس ويشين مما هو مختص – أيضاً – به أو متعلق بغيره.
و الفُتُوَّة إنما هي استعمال الأخلاق الكريمة مع الخلق”.
وقال : ” وهذه منزلة شريفة, لم تُعَبِّرْ عنها الشريعة باسم الفُتُوَّة, بل عبرت عنها باسم مكارم الأخلاق كما في حديث يوسف بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر : عن النبي- ?- قال: ” إن الله بعثني لأتمم مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال “( قال السخاوي (المقاصد الحسنة 1/180): (أورده مالك في الموطأ بلاغاً عن النبي (, وقال ابن عبدالبر: هو متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره مرفوعاً, منها: ما أخرجه أحمد في مسنده, والخرائطي في أول المكارم من حديث محمد بن عجلان, عن القعقاع بن حكيم, عن أبي صالح, عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: (صالح الأخلاق) ورجاله رجال الصحيح, والطبراني في الأوسط بسند فيه عمر بن إبراهيم القرشي, وهو ضعيف, عن جابر مرفوعاً: (إن الله بثعني بتمام مكارم الأخلاق وكمال محاسن الأفعال) ومعناه صحيح).أ هـ.).
وأصل الفُتُوَّة من الفتى, وهو الشاب الحدث السن”. إلى أن قال: ” فاسم الفتى لا يُشعر بمدح ولا ذم كاسم الشاب والحدث.
ولذلك لم يجىء اسم الفُتُوَّة في القرآن ولا السنة ولا في لسان السلف. وإنما استعمله مَنْ بَعدَهم في مكارم الأخلاق. وأصلها عندهم أن يكون العبد أبداً في أمر غيره .
وأقدم من عَلِمتُه تكلم في الفُتُوَّة جعفر بن محمد, ثم الفضيل بن عياض, والإمام أحمد, وسهل بن عبدالله, والجنيد,ثم الطائفة”
ثم أوردَ جملة من الآثار في هذا السياق ؛ فمن ذلك قوله ” فيذكر أن جعفر ابن محمد سُئل عن الفُتُوَّة فقال للسائل: ما تقول أنت؟ فقال: إن أُعطيت شكرت, وإن مُنِعْت صبرت. فقال: الكلاب عندنا كذلك. فقال السائل: يا ابن رسول الله فما الفُتُوَّة عندكم؟فقال: إن أُعطينا آثرنا, وإن مُنِعْنا شكرنا. وقال الفضيل بن عياض: الفُتُوَّة أن تصفح عن عثرات الإخوان. وقال الإمام أحمد في رواية ابنه عبدالله عنه وقد سُئل عن الفُتُوَّة فقال: ترك ما تهوى لما تخشى . وقال الشيخ أبو إسحاق الحويني-حفظه الله- في إحدى محاضراته عن الفُتُوَّة والرجولة في الإسلام تعليقا على كلام الإمام أحمد ( أنتتهوى شيئا ما فيه معصية، هذه المعصية تأخذ للنار أو تُغضِب الرب عليك، فلأجل هذهالخشية، تركت ما تهوى، هذا هو الرجل،فالرجولة صفة لا يتصف بها إلا قليل من الخلق , ولا أعلم أحدا وَفَّى الفُتُوَّة حقها علـى وجهها إلا نبينا , هل تعرف متى ؟؟ فـي يوم القيامة: حديثأبـي هريرة،و حديث أبـي سعيد الخدري حديث الشفاعة : ” لما تدنو الشمس من رؤوس العبادوقداستوفـى الله غضبه يوم القيامة، كما قال الأنبياء إن الله غاضب اليوم غضبا ما غضبهقبل ذلك قط ولا يغضبه بعد ذلك قط , لأن الله تبارك وتعالـى لو استوفى غضبه فـي الدنيا ما قبل توبة تائب، (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَامِنْ دَابَّةٍ ) أي دابة لماذا؟ لأن كل دابة تَظْلِم، كما فـي أحاديث كثيرة أن الدابة العجماء تنتصف منالدابة القرناء يومالقيامة، ميزان عدل الله عز وجل تظهر فيه الذرة، ومثقال الذرة، فالعباد كلهم وكل الناس لا تعرف أين تذهب، أومَنتكلم، أفواج، أفواج،أفواج، فقالبعضهملبعض ألا ترون ما نحن فيه، نريد أن نتجه لأي شخص يفك هذا الكرب، قالوا: عليكمبالأنبياء فذهبوا إلـى آدم، فذكر خطيئته وقال نفسـي نفسـي، إن الله غاضب اليوم غضبا، أي نفس العبارة التـي قالها كل الأنبياء قالها آدم عليه السلام، قالها نوح عليه السلام، قالها إبراهيم عليه السلام، قالها موسـى عليه السلام، قالها عيسـى عليه السلام، كل منهم يقول نفسـي نفسـي،إلا النبـي قال أمتـى أمتـي ) أ.هـ كلام الشيخ أبو إسحاق الحويني حفظه الله ,
وسئل الجنيد عن الفُتُوَّة فقال: لا تنافِر فقيراً, ولا تعارِض غنياً. وقال الحارث المحاسبي: الفُتُوَّة أن تنصف ولا تنتصف.وقال عمر بن عثمان المكي: الفُتُوَّة حسن الخلق. وقيل: الفُتُوَّة ألا ترى لنفسك فضلاً على غيرك .وقيل: فضيلة تأتيها, ولا ترى لنفسك فيها.وقيل: هي الوفاء والحفاظ.وقيل: ألا تحتجب ممن قصدك. وقيل: ألا تهرب إذا أقبل العافي؛ يعني طالب المعروف. وقيل: إظهار النعمة, وإسرار المحنة. وقيل: ليس من الفُتُوَّة أن تربح على صديقك”.
وبعد ذكر ابن القيم هذه الأقوال في الفُتُوَّة, ساق قصصاً وأخباراً في هذا القبيل نذكرمنها: “قيل: تزوج رجل بامرأة, فلما دخلت عليه رأى بها الجدري فقال: اشتكيت عيني, ثم قال: عميت, فبعد عشرين سنة ماتت, ولم تعلم أنه بصير, فقيل له في ذلك, فقال: كرهت أن يحزنها رؤيتي لما بها, فقيل له: سبقت الفتيان ”
ومن الفُتُوَّة التي لا تلحق: ما يذكر أن رجلاً نام من الحاج في المدينة, ففقد همياناً (شداد السراويل والمنطقة وكيس للنفقة يشد فى الوسط) فيه ألف دينار, فقام فزعاً, فوجد جعفر بن محمد, فعلق به, وقال: أخذت همياني, فقال: أي شيء كان فيه؟ قال: ألف دينار, فأدخله داره, ووزن له ألف دينار, ثم إن الرجل وجد هميانه, فجاء إلى جعفر معتذراً بالمال, فأبى أن يقبله منه, وقال: شيء أخرجته من يدي لا أسترده أبداً, فقال الرجل للناس: من هذا؟ فقالوا: هذا جعفر بن محمد “.
مراتب الفُتُوَّة :
هذا وإن الفُتُوَّةَ مراتبُ, ودرجاتٌ, وقد أشار إلى شيء من ذلك الإمام ابن القيم في كتابه مدارج السالكين في شرح منازل السائرين لأبي إسماعيل الهروي .
قال ابن القيم : ” قال صاحب المنازل: “ونكتة الفُتُوَّة ألا تشهد لك فضلاً, ولا ترى لك حقاً”.
يقول: قلبُ الفُتُوَّةِ, وإنسانُ عينها: أن تفنى بشهادة نقصك, وعيبك عن فضلك, وتغيب بشهادة حقوق الخلق عليك عن شهادة حقوقك عليهم.
والناس في هذا مراتب فأشرفها: أهل هذه المرتبة, وأخسها: عكسهم, وهم أهل الفناء في شهود فضائلهم عن عيوبهم, وشهود حقوقهم على الناس عن شهود حقوق الناس عليهم.
وأوسطهم: مَن شَهد هذا وهذا, فيشهد ما فيه من العيب والكمال, ويشهد حقوق الناس عليه، وحقوقه عليهم”.
إلى أن قال متحدثاً عن درجات الفُتُوَّة: ” قال – أي أبو إسماعيل الهروي-: ” وهي على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: ترك الخصومة, والتغافل عن الزلة, ونسيان الأذيّة “.
ثم شرع ابن القيم في شرح هذه الدرجة قائلاً: ” هذه الدرجة من باب الترك والتخلي, وهي ألا يخاصم أحداً, فلا ينصب نفسه خصماً لأحد غيرها؛ فهي خصمه “.
وهذه المنزلة – أيضاً- ثلاث درجات, لا يخاصم بلسانه, ولا ينوي الخصومة بقلبه, ولا يُخْطِرها على باله, هذا في حق نفسه.
وأما في حق ربه: فالفُتُوَّة أن يخاصم بالله وفي الله, ويحاكم إلى الله, كما كان النبي ? يقول في دعاء الاستفتاح: ” وبكَ خاصَمْتُ وإليك حاكمتُ ” البخاري (1104) مسلم (1758) .
وهذه درجة فُتُوَّة العلماء الدعاة إلى الله .
وأما التغافل عن الزلة فهو أنه إذا رأى من أحد زلة يوجب عليه الشرع أخذه بها أظهر أنه لم يَرَها؛ لئلا يعرض صاحبها للوحشة, ويريحَه من تحمل العذر.
و فُتُوَّة التغافل: أرفع من فُتُوَّة الكتمان مع الرؤية.
قال أبو علي الدقاق: جاءت امرأة فسألت حاتماً عن مسألة؛ فاتفق أنه خرج منها صوت في تلك الحالة, فخجلت, فقال حاتم: ارفعي صوتك؛ فأوهمها أنه أصم؛ فسُرَّت المرأة بذلك, وقالت: إنه لم يسمع الصوت؛ فَلُقِّب بحاتم الأصم, وهذا التغافل هو نصف الفُتُوَّة.
وأما ( نسيان الأذية ) فهو بأن تنسى أذية من نالك بأذى؛ ليصفو قلبك له, ولا تستوحش منه.
قلت: وهنا نسيان آخر – أيضاً – وهو من الفُتُوَّة, وهو نسيان إحسانك إلى من أحسنت إليه؛ حتى كأنه لم يصدر منك, وهذا النسيان أكمل من الأول, وفيه قيل:
ينسى صنائعه والله يُظهرها إنَّ الجميلَ إذا أخفيتَه ظَهرا”
ثم ساق ابن القيم كلام أبي إسماعيل الهروي في بيان الدرجة الثانية من درجات الفُتُوَّة, وهو قوله: “الدرجة الثانية: أن تُقَرِّب من يقصيك, وتُكرم من يؤذيك, وتعتذر إلى من يجني عليك, سماحة لا كظماً, ومودة لا مصابرة”.
ثم شر ع ابن القيم في شرح هذه الدرجة قائلاً: ” هذه الدرجة أعلى مما قبلها وأصعب؛ فإن الأولى: تتضمن ترك المقابلة والتغافل, وهذه تتضمن الإحسان إلى من أساء إليك, ومعاملته بضد ما عاملك به؛ فيكون الإحسان والإساءة بينك وبينه خطَّتين, فخطتُك: الإحسان, وخطَّته: الإساءة, وفي مثلها قال القائل:
إذا مَرضنا أتيناكم نعودُكم وتُذنِبون فنأتيكم ونَعْتَذِرُ
ومن أراد فَهْم هذه الدرجة كما ينبغي, فلينظر إلى سيرة النبي ( مع الناس يَجدْها هذه بعينها, ولم يكن كمال هذه الدرجة لأحد سواه, ثم للورثة منها بحسب سِهامهم من التركة.
وما رأيت أحداً قط أجمع لهذه الخصال من شيخ الإسلام ابن تيمية – قدس الله روحه – وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: وددت أني لأصحابي مثله لأَعدائه وخُصومه.
وما رأيته يدعو على أحد منهم قط, وكان يدعو لهم.
وجئتُ يوماً مبشراً له بموت أكبر أعدائه, وأشدّهم عداوةً وأَذىً له, فَنَهرني, وتنكَّر لي, واسترجع, ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم, وقال: إني لكم مكانه, ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه ونحو هذا من الكلام, فَسُرُّوا به, ودعوا له, وعظموا هذه الحال منه, فرحمه الله ورضي عنه, وهذا مفهوم.
وأما الاعتذار إلى من يجني عليك فإنه غير مفهوم في بادي الرأي؛ إذ لم يصدر منك جناية توجب اعتذاراً, وغايتك: أنك لا تؤاخذه, فهل تعتذر إليه من ترك المؤاخذة؟
ومعنى هذا: أنك تنزل نفسك منزلة الجاني لا المجني عليه, والجاني خليق بالعذر.
والذي يُشهدك هذا المشهد: أنك تعلم أنه إنما سُلِّط عليك بذنب, كما قال تعالى:(وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ([ الشورى:30].
فإذا علمت أنك بدأت بالجناية؛ فانتقم لله منك على يده – كنت في الحقيقة أولى بالاعتذار.
والذي يهون عليك هذا كله: مشاهدة تلك المشاهد (لعله يقصد مشاهد المعصية)العشرة المتقدمة فعليك بها؛ فإن فيها كنوز المعرفة والبر.
وقوله: “سماحة لا كَظْماً ومَودَّة لا مصابرة”
يعني: اجعل هذه المعاملة منك صادرة عن سماحة, وطيبة نفس, وانشراح صدر, لا عن كظم, وضيق ومصابرة؛ فإن ذلك دليل على أن هذا ليس في خلقك, وإنما هو تكلف يوشك أن يزول, ويظهر حكم الخلق صريحاً, فتفتضح, وليس المقصود إلا إصلاح الباطن والسر والقلب.
ثم انتقل بعد ذلك إلى شرح كلمات لأبي إسماعيل في شرح الدرجة الثالثة, ومنها قوله: ” واعلم أَنَّ مَنْ أَحْوَجَ عدوَّه إلى شفاعته, ولم يخجل من المعذرة إليه لم يشم رائحة الفُتُوَّة “.
قال ابن القيم شارحاً هذه العبارة: ” يعني أن العدو متى علم أنك متألم من جهة ما نالك من الأذى منه احتاج إلى أن يعتذر إليك, ويُشَفِّع إليك شافعاً ما قلبك منه.
فالفُتُوَّة كل الفُتُوَّة : أن لا تحوجه إلى الشفاعة, بأن لا يظهر له منك عتب, ولا تغير عما كان له منك قبل معاداته, ولا تطوي عنه بشرك ولا برك, وإذا لم تخجل أنت من قيامه بين يديك مقام المعتذر لم يكن لك في الفُتُوَّة نصيب.
فانظر يا رعاك الله إلى قوله تعالى ” وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِاللَّهِوَلْيَعْفُواوَلْيَصْفَحُواألا تُحِبُّونَأَنيَغْفِرَاللَّهُلَكُمْ وَاللَّهُغَفُورٌرَّحِيمٌ “النور 22 قال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية (اعلم أنه تعالى كما أدب أهل الإفك ومن سمع كلامهم كما قدمنا ذكره، فكذلك أدب أبا بكر لما حلف أن لا ينفق على مسطح أبدا، … وقال الفخر الرازي أيضا …… فالإنسان إذا أحسن إلى غيره فإذا قابله ذلك الغير بالإساءة كان ذلك أشد عليه مما إذا صدرت الإساءة من الأجنبي، والجهتان كانتا مجتمعتين في حق مسطح ثم إنه آذى أبا بكر بهذا النوع من الإيذاء الذي هو أعظم أنواع الإيذاء، فانظر أين مبلغ ذلك الضرر في قلب أبي بكر، ثم إنه سبحانه أمره بأن لا يقطع عنه بره وأن يرجع معه إلى ما كان عليه من الإحسان، وذلك من أعظم أنواع المجاهدات، ولا شك أن هذا أصعب من مقاتلة الكفار لأن هذا مجاهدة مع النفس وذلك مجاهدة مع الكافر ومجاهدة النفس أشق، ) أ.هـ
وهذا غيض من فيض في معاني الفُتُوَّة والرجولة , وكلام العلماء في ذلك كثير , وانظر أخي في تفسير قوله تعالى في سورة النور ” يسبح له فيها بالغدو والآصال * رجالٌ لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة …” وقوله تعالى في سورة يس ” وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى … ” وقوله تعالى في سورة القصص ” وجاء رجل من أقصا المدينة يسعى … ” فستجد معاني الرجولة واضحة وجلية .
الآن السؤال الذي يفرض نفسه , كيف نربي أجيالنا على الفُتُوَّة والرجولة ؟
التربية على الفُتُوَّة الرجولة:
هناك عدة مداخل هامة لتربية الأجيال على الرجولة والفتوة لزم أن نسوق طرفاً منها إذ التهاون في تطبيقها له تأثير سيء في تشكيل الحالة التربوية لأخلاق أجيالنا الإسلامية:
1- تكوين النموذج المثالي في القدوة: فهي صور تنطبع في ذهن الشاب المؤمن متراكمة عن النموذج الذي يجب أن يقتدي به تتكون منذ صغره من قصص وروايات الآباء والأمهات عن الفارس القوي الذي يستطيع هزيمة الجيوش وفتح البلاد ودحر الأشرار وهكذا. وصفات ذلك الفارس المسلم تلك الصفات النبيلة الرائعة المتمثلة بأخلاق الشرع الحنيف، كما تنطبع في ذهنه عبر تكوين نموذج الصداقة النبيلة التي تتكون على عين الوالدين في كل مراحلها، كما تتكون عبر ما يبثه المربون عن شخصية القدوة وسمات رجالات الإسلام أمثال صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهم وكبار التابعين رحمهم الله وعقد المقارنات بينهم وبين غيرهم من النماذج اللامعة بالباطل من أمثال أهل الفن ولاعبي الكرة وغيرهم .
في الختام أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
نقل هادا عن (أبو دومة أفندي أو أبو دومة) من موقع ملتقى اهل التقسير 2- نشر ثقافة الفتوة والرجولة: ويعنى بها تلك المعلومات والفعاليات المستمرة المتتالية التي تعنى بنشر المعلوماتية حول المروءة والرجولة كثقافة مضادة لثقافة التميع والانحلال الخلقي وثقافة النفعية الخاصة وما اشتهر منها في الغرب. 3- تعميق الدور المؤسسي في التربية على مفاهيم الرجولة والفتوة: وأهم تلك المؤسسات هي المؤسسات التعليمية والإعلامية، حيث يمكن توظيف طاقات عملاقة للتأثير في تغيير النمط الخلقي للشباب نحو المفهوم الصائب للرجولة والاتصاف بها. 4- الدور الفعال للمسجد وللخطباء والعلماء والدعاة عبر المساجد، حيث يرتادها أعداد لازالت كبيرة بين المجتمعات المسلمة فلزم قيام هؤلاء الموجهين بأدوار مختلفة يقوم بتنسيقها القائمون على العملية التربوية.
الاثنين، 10 يناير 2011
السبت، 8 يناير 2011
قصيدة ليس الغريب غريب الشام واليمن وهي ل
زين العابدين على بن الحسين بن على بن أبي طالب
كرم الله وجهه
لَيْسَ الغَريبُ غَريبَ الشَّأمِ واليَمَنِ | إِنَّ الغَريبَ غَريبُ اللَّحدِ والكَفَنِ | |
إِنَّ الغَريِبَ لَهُ حَقٌّ لِغُرْبَتـِهِ | على الْمُقيمينَ في الأَوطــانِ والسَّكَنِ | |
سَفَري بَعيدٌ وَزادي لَنْ يُبَلِّغَنـي | وَقُوَّتي ضَعُفَتْ والمـوتُ يَطلُبُنـي | |
وَلي بَقايــا ذُنوبٍ لَسْتُ أَعْلَمُها | الله يَعْلَمُهــا في السِّرِ والعَلَنِ | |
مـَا أَحْلَمَ اللهَ عَني حَيْثُ أَمْهَلَني | وقَدْ تَمـادَيْتُ في ذَنْبي ويَسْتُرُنِي | |
تَمُرُّ سـاعـاتُ أَيّـَامي بِلا نَدَمٍ | ولا بُكاءٍ وَلاخَـوْفٍ ولا حـَزَنِ | |
أَنَـا الَّذِي أُغْلِقُ الأَبْوابَ مُجْتَهِداً | عَلى المعاصِي وَعَيْنُ اللهِ تَنْظُرُنـي | |
يَـا زَلَّةً كُتِبَتْ في غَفْلَةٍ ذَهَبَتْ | يَـا حَسْرَةً بَقِيَتْ في القَلبِ تُحْرِقُني | |
دَعْني أَنُوحُ عَلى نَفْسي وَأَنْدِبُـهـا | وَأَقْطَعُ الدَّهْرَ بِالتَّذْكِيـرِ وَالحَزَنِ | |
كَأَنَّني بَينَ تلك الأَهلِ مُنطَرِحــَاً | عَلى الفِراشِ وَأَيْديهِمْ تُقَلِّبُنــي | |
وَقد أَتَوْا بِطَبيبٍ كَـيْ يُعالِجَنـي | وَلَمْ أَرَ الطِّبَّ هـذا اليـومَ يَنْفَعُني | |
واشَتد نَزْعِي وَصَار المَوتُ يَجْذِبُـها | مِن كُلِّ عِرْقٍ بِلا رِفقٍ ولا هَوَنِ | |
واستَخْرَجَ الرُّوحَ مِني في تَغَرْغُرِها | وصـَارَ رِيقي مَريراً حِينَ غَرْغَرَني | |
وَغَمَّضُوني وَراحَ الكُلُّ وانْصَرَفوا | بَعْدَ الإِياسِ وَجَدُّوا في شِرَا الكَفَنِ | |
وَقـامَ مَنْ كانَ حِبَّا النّاسِ في عَجَلٍ | نَحْوَ المُغَسِّلِ يَأْتينـي يُغَسِّلُنــي | |
وَقــالَ يـا قَوْمِ نَبْغِي غاسِلاً حَذِقاً | حُراً أَرِيباً لَبِيبـاً عَارِفـاً فَطِنِ | |
فَجــاءَني رَجُلٌ مِنْهُمْ فَجَرَّدَني | مِنَ الثِّيــابِ وَأَعْرَاني وأَفْرَدَني | |
وَأَوْدَعوني عَلى الأَلْواحِ مُنْطَرِحـاً | وَصـَارَ فَوْقي خَرِيرُ الماءِ يَنْظِفُني | |
وَأَسْكَبَ الماءَ مِنْ فَوقي وَغَسَّلَني | غُسْلاً ثَلاثاً وَنَادَى القَوْمَ بِالكَفَنِ | |
وَأَلْبَسُوني ثِيابـاً لا كِمامَ لهـا | وَصارَ زَادي حَنُوطِي حيـنَ حَنَّطَني | |
وأَخْرَجوني مِنَ الدُّنيـا فَوا أَسَفاً | عَلى رَحِيـلٍ بِلا زادٍ يُبَلِّغُنـي | |
وَحَمَّلوني على الأْكتـافِ أَربَعَةٌ | مِنَ الرِّجـالِ وَخَلْفِي مَنْ يُشَيِّعُني | |
وَقَدَّموني إِلى المحرابِ وانصَرَفوا | خَلْفَ الإِمـَامِ فَصَلَّى ثـمّ وَدَّعَني | |
صَلَّوْا عَلَيَّ صَلاةً لا رُكوعَ لهـا | ولا سُجـودَ لَعَلَّ اللـهَ يَرْحَمُني | |
وَأَنْزَلوني إلـى قَبري على مَهَلٍ | وَقَدَّمُوا واحِداً مِنهـم يُلَحِّدُنـي | |
وَكَشَّفَ الثّوْبَ عَن وَجْهي لِيَنْظُرَني | وَأَسْكَبَ الدَّمْعَ مِنْ عَيْنيهِ أَغْرَقَني | |
فَقامَ مُحتَرِمــاً بِالعَزمِ مُشْتَمِلاً | وَصَفَّفَ اللَّبِنَ مِنْ فَوْقِي وفـارَقَني | |
وقَالَ هُلُّوا عليه التُّرْبَ واغْتَنِموا | حُسْنَ الثَّوابِ مِنَ الرَّحمنِ ذِي المِنَنِ | |
في ظُلْمَةِ القبرِ لا أُمٌّ هنــاك ولا | أَبٌ شَفـيقٌ ولا أَخٌ يُؤَنِّسُنــي | |
فَرِيدٌ وَحِيدُ القبرِ، يــا أَسَفـاً | عَلى الفِراقِ بِلا عَمَلٍ يُزَوِّدُنـي | |
وَهالَني صُورَةً في العينِ إِذْ نَظَرَتْ | مِنْ هَوْلِ مَطْلَعِ ما قَدْ كان أَدهَشَني | |
مِنْ مُنكَرٍ ونكيرٍ مـا أَقولُ لهم | قَدْ هــَالَني أَمْرُهُمْ جِداً فَأَفْزَعَني | |
وَأَقْعَدوني وَجَدُّوا في سُؤالِهـِمُ | مَـالِي سِوَاكَ إِلهـي مَنْ يُخَلِّصُنِي | |
فَامْنُنْ عَلَيَّ بِعَفْوٍ مِنك يــا أَمَلي | فَإِنَّني مُوثَقٌ بِالذَّنْبِ مُرْتَهــَنِ | |
تَقاسمَ الأهْلُ مالي بعدما انْصَرَفُوا | وَصَارَ وِزْرِي عَلى ظَهْرِي فَأَثْقَلَني | |
واستَبْدَلَتْ زَوجَتي بَعْلاً لهـا بَدَلي | وَحَكَّمَتْهُ فِي الأَمْوَالِ والسَّكَـنِ | |
وَصَيَّرَتْ وَلَدي عَبْداً لِيَخْدُمَهــا | وَصَارَ مَـالي لهم حـِلاً بِلا ثَمَنِ | |
وانْظُرْ إِلى مَنْ حَوَى الدُّنْيا بِأَجْمَعِها | هَلْ رَاحَ مِنْها بِغَيْرِ الحَنْطِ والكَفَنِ | |
خُذِ القَنـَاعَةَ مِنْ دُنْيَاك وارْضَ بِها | لَوْ لم يَكُنْ لَكَ إِلا رَاحَةُ البَدَنِ | |
يَـا زَارِعَ الخَيْرِ تحصُدْ بَعْدَهُ ثَمَراً | يَا زَارِعَ الشَّرِّ مَوْقُوفٌ عَلَى الوَهَنِ | |
يـَا نَفْسُ كُفِّي عَنِ العِصْيانِ واكْتَسِبِي | فِعْلاً جميلاً لَعَلَّ اللهَ يَرحَمُني | |
يَا نَفْسُ وَيْحَكِ تُوبي واعمَلِي حَسَناً | عَسى تُجازَيْنَ بَعْدَ الموتِ بِالحَسَنِ | |
ثمَّ الصلاةُ على الْمُختـارِ سَيِّدِنـا | مَا وَصَّـا البَرْقَ في شَّامٍ وفي يَمَنِ | |
والحمدُ لله مُمْسِينَـا وَمُصْبِحِنَا | بِالخَيْرِ والعَفْوْ والإِحْســانِ وَالمِنَنِ |
الخميس، 6 يناير 2011
بدء اسلام الانصار رضي الله عنهم اجمعين
قال ابن إسحاق : فلما أراد الله عز وجل إظهار دينه ، وإعزاز نبيه صلى الله عليه وسلم ، وإنجاز موعده له ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار ، فعرض نفسه على قبائل العرب ، كما كان يصنع في كل موسم . فبينما هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا .
قال ابن إسحاق : فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة ، عن أشياخ من قومه ، قالوا : لما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال لهم : من أنتم ؟ قالوا : نفر منالخزرج ، قال : أمن موالي يهود ؟ قالوا : نعم ، قال : أفلا تجلسون أكلمكم ؟ قالوا : بلى . فجلسوا معه ، فدعاهم إلى الله عز وجل ، وعرض عليهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن . قال : وكان مما صنع الله بهم في الإسلام ، أن يهود كانوا معهم في بلادهم ، وكانوا أهل كتاب وعلم ، وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان ، وكانوا قد غزوهم ببلادهم ، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم : إن [ ص: 429 ] نبيا مبعوث الآن ، قد أظل زمانه ، نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم . فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ، ودعاهم إلى الله ، قال بعضهم لبعض : يا قوم ، تعلموا والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود ، فلا تسبقنكم إليه . فأجابوه فيما دعاهم إليه ، بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام ، وقالوا : إنا قد تركنا قومنا ، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم ، فعسى أن يجمعهم الله بك ، فسنقدم عليهم ، فندعوهم إلى أمرك ، وتعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين ، فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك . ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم ، وقد آمنوا وصدقوفلما كان موسم الحج من العام التالي جاء إلى الموسم اثنا عشر رجلًا من المؤمنين ( عشرة من الخزرج واثنان من الأوس ) فالتقوا برسول الله – صلى الله عليه وسلم- عند العقبة بمنى ، وبايعوه البيعة التي سميت ” بيعة العقبة الأولى ” ، وكانت بنود هذه البيعة نفس البنود التي بايع الرسول – صلى الله عليه وسلم- عليها النساء فيما بعد ، ولذلك عرفت أيضاً باسم ” بيعة النساء ” ، وقد روى البخاري في صحيحه نص هذه البيعة وبنودها في حديث عبادة بن الصامت الخزرجي رضي الله عنه – وكان ممن حضر البيعة – وفيه أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال لهم : ( تعالوا بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا أولادكم ، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ، ولا تعصوني في معروف ، فمن وفي منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة ، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله فأمـره إلى الله ، إن شاء عاقبه ، وإن شاء عفا عنه ) ،قال : ” فبايعته ” ، وفي رواية ” فبايعناه على ذلك ” .
ثم بعث النبي – صلى الله عليه وسلم- معهم مصعب بن عمير ، يعلمهم شرائع الإسلام ، ويفقههم في الدين ، ويقرؤهم القرآن ، وينشر الإسلام في ربوع المدينة ، فأقام رضي الله عنه في بيت أسعد بن زرارة يعلم الناس ، ويدعوهم إلى الله ، وتمكن خلال أشهر معدودة من أن ينشر الإسلام في سائر بيوت المدينة ، وأن يكسب للإسلام أنصارًا من كبار زعمائها ، كسعد بن معاذ ، و أسيد بن الحضير ، وقد أسلم بإسلامهما خلق كثير من قومهم ، ولم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون .
وعاد مصعب رضي الله عنه إلى مكة قبيل الموسم التالي ، يحمل بشائر الخير ، ويخبر النبي – صلى الله عليه وسلم- بما لقيه الإسلام في المدينة من قبول حسن ، وأنه سوف يرى في هذا الموسم ما تقر به عينه ، ويسر به فؤاده، فكانت هذه البيعة من أهم المنعطفات التاريخية في حياة الرسول – صلى الله عليه وسلم- وصحبه الكرام .
ومن خلال أحداث هذه المرحلة وما سبقها من عرض الإسلام على القبائل يمكن استخلاص العديد من الدلالات والمعاني المهمة ومنها :
الحكمة الربانية والتدبير الإلهي لهذا الدين في أن يكون الذين يستجيبون للرسول – صلى الله عليه وسلم- ويدافعون عنه وعن دينه ، من خارج قريش ، ومن غير أهله وعشيرته ، من أجل أن تقطع كل الشكوك حول طبيعة هذا الدعوة الجديدة ومصدرها وأهدافها ، ولئلا يقع أي التباس بينها وبين غيرها من الدعوات والمطامع الدنيوية .
ومن الدلالات أيضاً : أهمية وجود أرضية خصبة ، وسند قوي يحمي الدعوة ويحوطها ، ويحفظها من أن توأد في مهدها ، ولذا كان – صلى الله عليه وسلم- حريصاً على البحث عن قبيلة تسمح بنشر الدعوة بين ظهرانيها ، وتعلن حمايتها لها ، لأن الذين آمنوا به في مكة كانوا غرباء بين أقوامهم ، وكانوا نُزَّاعًا متفرقين في القبائل ، فكانوا بحاجة إلى ملاذ يفيؤون إليه ، وقبيلة تدفع عنهم وتحميهم ، وتمكنهم من نشر رسالتهم في العالمين ، وهو ما فعله – صلى الله عليه وسلم- .
ومن دلالات هذه البيعة ودروسها أن اختيار الرسول – صلى الله عليه وسلم- للمدينة وأهلها ، لحمل الرسالة ، ونيل شرف النصرة ، لم يكن اعتباطاً ، وإنما وقع الاختيار عليها لأن المدينة كانت تعيش ظروفًا خاصة رشحتها لاحتضان دعوة الإسلام ، فقد كان التطاحن والتشاحن بين الأوس والخزرج على أشده حتى قامت بينهم الحروب الطاحنة ، التي أنهكت قواهم ، وأوهنت عزائمهم ، كيوم بعاث وغيره ، مما جعلهم يتطلعون إلى أي دعوة جديدة تكون سببًا لوضع الحروب والمشاكل فيما بينهم ، ويمكن أن نلحظ ذلك من خلال قول أولئك النفر الستة : ” إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم ، فعسى أن يجمعهم الله بك ، فسنقدم عليهم ، فندعوهم إلى أمرك ، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين ، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك ” .
كما أن هذا الحروب كانت قد أفنت كبار زعمائهم وقادتهم ، ممن كان نظراؤهم في مكة والطائف وغيرهما حجر عثرة في سبيل الدعوة ، ولم يبق إلا القيادات الجديدة الشابة المستعدة لقبول الحق ، أضف إلى ذلك عدم وجود قيادة بارزة معروفة يتواضع الجميع على التسليم لها ، فكانوا بحاجة إلى من يأتلفون عليه ، ويلتئم شملهم تحت ظله .
ومن المعروف أن اليهود كانوا يسكنون المدينة مما جعل الأوس والخزرج على اطلاع بأمر الرسالات السماوية– بحكم الجوار- ، فكانوا اليهود يهددونهم بنبي قد أظل زمانه ، ويزعمون أنهم سيتبعونه ، ويقتلونهم به قتل عاد وإرم ، ولذا فبمجرد أن وصلت الدعوة إليهم ، قال بعضهم لبعض : ” تعلمون والله يا قوم ، إنه للنبى الذي توعدكم به يهود ، فلا تسبقنكم إليه ” .
ومن الدلالات أيضاً : أهمية معرفة الداعية والمربي لخصائص الناس وشخصياتهم ، ومن يصلح منهم لهذه المهمة أو تلك ، ندرك ذلك من خلال حسن اختياره – صلى الله عليه وسلم- لمصعب بن عمير للقيام بمهمة الدعوة ، ونشر الإسلام في المدينة ، لما كان يمتاز به رضي الله عنه – بجانب حفظه لما نزل من القرآن – من لباقة ، وهدوء ، وحكمة وحسن خلق ، فضلاً عن قوة إيمانه ، وشدة حماسه للدين ، ولذلك نجح أيما نجاح في دعوته ، واستطاع أن يتخطى الصعاب والعقبات الكثيرة التي واجهته باعتباره أولاً نازحاً وغريباً ، وثانياً يحمل رسالة جديدة تخالف ما عليه الناس ، وتريد أن تنقلهم من موروثاتهم التي ألِِفُوها ، وألْفَوا عليها آباءهم وأجدادهم ، ولعل في قصة إسلام سعد بن معاذ ، و أسيد بن حضير ما يبين ذلك بجلاء .
وهكذا مهدت هذه البيعة لما بعدها من الأحداث التي غيرت مجرى التاريخ ، وكانت إيذاناً بأن عهد الذل والاستضعاف قد ولى إلى غير رجعة ، وسيكون بعدها للإسلام قوته ومنعته ، ، وستتوالى على مكة مواكب الخير ، وطلائع الهدى والنور التي هيأها الله لحمل رسالته ، وتبيلغ دعوته ، والعاقبة للمتقينجعلنا الله ممن سار على دربهم