بدء اسلام الانصار رضي الله عنهم اجمعين
قال ابن إسحاق : فلما أراد الله عز وجل إظهار دينه ، وإعزاز نبيه صلى الله عليه وسلم ، وإنجاز موعده له ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار ، فعرض نفسه على قبائل العرب ، كما كان يصنع في كل موسم . فبينما هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا .
قال ابن إسحاق : فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة ، عن أشياخ من قومه ، قالوا : لما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال لهم : من أنتم ؟ قالوا : نفر منالخزرج ، قال : أمن موالي يهود ؟ قالوا : نعم ، قال : أفلا تجلسون أكلمكم ؟ قالوا : بلى . فجلسوا معه ، فدعاهم إلى الله عز وجل ، وعرض عليهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن . قال : وكان مما صنع الله بهم في الإسلام ، أن يهود كانوا معهم في بلادهم ، وكانوا أهل كتاب وعلم ، وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان ، وكانوا قد غزوهم ببلادهم ، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم : إن [ ص: 429 ] نبيا مبعوث الآن ، قد أظل زمانه ، نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم . فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ، ودعاهم إلى الله ، قال بعضهم لبعض : يا قوم ، تعلموا والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود ، فلا تسبقنكم إليه . فأجابوه فيما دعاهم إليه ، بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام ، وقالوا : إنا قد تركنا قومنا ، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم ، فعسى أن يجمعهم الله بك ، فسنقدم عليهم ، فندعوهم إلى أمرك ، وتعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين ، فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك . ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم ، وقد آمنوا وصدقوفلما كان موسم الحج من العام التالي جاء إلى الموسم اثنا عشر رجلًا من المؤمنين ( عشرة من الخزرج واثنان من الأوس ) فالتقوا برسول الله – صلى الله عليه وسلم- عند العقبة بمنى ، وبايعوه البيعة التي سميت ” بيعة العقبة الأولى ” ، وكانت بنود هذه البيعة نفس البنود التي بايع الرسول – صلى الله عليه وسلم- عليها النساء فيما بعد ، ولذلك عرفت أيضاً باسم ” بيعة النساء ” ، وقد روى البخاري في صحيحه نص هذه البيعة وبنودها في حديث عبادة بن الصامت الخزرجي رضي الله عنه – وكان ممن حضر البيعة – وفيه أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال لهم : ( تعالوا بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا أولادكم ، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ، ولا تعصوني في معروف ، فمن وفي منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة ، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله فأمـره إلى الله ، إن شاء عاقبه ، وإن شاء عفا عنه ) ،قال : ” فبايعته ” ، وفي رواية ” فبايعناه على ذلك ” .
ثم بعث النبي – صلى الله عليه وسلم- معهم مصعب بن عمير ، يعلمهم شرائع الإسلام ، ويفقههم في الدين ، ويقرؤهم القرآن ، وينشر الإسلام في ربوع المدينة ، فأقام رضي الله عنه في بيت أسعد بن زرارة يعلم الناس ، ويدعوهم إلى الله ، وتمكن خلال أشهر معدودة من أن ينشر الإسلام في سائر بيوت المدينة ، وأن يكسب للإسلام أنصارًا من كبار زعمائها ، كسعد بن معاذ ، و أسيد بن الحضير ، وقد أسلم بإسلامهما خلق كثير من قومهم ، ولم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون .
وعاد مصعب رضي الله عنه إلى مكة قبيل الموسم التالي ، يحمل بشائر الخير ، ويخبر النبي – صلى الله عليه وسلم- بما لقيه الإسلام في المدينة من قبول حسن ، وأنه سوف يرى في هذا الموسم ما تقر به عينه ، ويسر به فؤاده، فكانت هذه البيعة من أهم المنعطفات التاريخية في حياة الرسول – صلى الله عليه وسلم- وصحبه الكرام .
ومن خلال أحداث هذه المرحلة وما سبقها من عرض الإسلام على القبائل يمكن استخلاص العديد من الدلالات والمعاني المهمة ومنها :
الحكمة الربانية والتدبير الإلهي لهذا الدين في أن يكون الذين يستجيبون للرسول – صلى الله عليه وسلم- ويدافعون عنه وعن دينه ، من خارج قريش ، ومن غير أهله وعشيرته ، من أجل أن تقطع كل الشكوك حول طبيعة هذا الدعوة الجديدة ومصدرها وأهدافها ، ولئلا يقع أي التباس بينها وبين غيرها من الدعوات والمطامع الدنيوية .
ومن الدلالات أيضاً : أهمية وجود أرضية خصبة ، وسند قوي يحمي الدعوة ويحوطها ، ويحفظها من أن توأد في مهدها ، ولذا كان – صلى الله عليه وسلم- حريصاً على البحث عن قبيلة تسمح بنشر الدعوة بين ظهرانيها ، وتعلن حمايتها لها ، لأن الذين آمنوا به في مكة كانوا غرباء بين أقوامهم ، وكانوا نُزَّاعًا متفرقين في القبائل ، فكانوا بحاجة إلى ملاذ يفيؤون إليه ، وقبيلة تدفع عنهم وتحميهم ، وتمكنهم من نشر رسالتهم في العالمين ، وهو ما فعله – صلى الله عليه وسلم- .
ومن دلالات هذه البيعة ودروسها أن اختيار الرسول – صلى الله عليه وسلم- للمدينة وأهلها ، لحمل الرسالة ، ونيل شرف النصرة ، لم يكن اعتباطاً ، وإنما وقع الاختيار عليها لأن المدينة كانت تعيش ظروفًا خاصة رشحتها لاحتضان دعوة الإسلام ، فقد كان التطاحن والتشاحن بين الأوس والخزرج على أشده حتى قامت بينهم الحروب الطاحنة ، التي أنهكت قواهم ، وأوهنت عزائمهم ، كيوم بعاث وغيره ، مما جعلهم يتطلعون إلى أي دعوة جديدة تكون سببًا لوضع الحروب والمشاكل فيما بينهم ، ويمكن أن نلحظ ذلك من خلال قول أولئك النفر الستة : ” إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم ، فعسى أن يجمعهم الله بك ، فسنقدم عليهم ، فندعوهم إلى أمرك ، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين ، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك ” .
كما أن هذا الحروب كانت قد أفنت كبار زعمائهم وقادتهم ، ممن كان نظراؤهم في مكة والطائف وغيرهما حجر عثرة في سبيل الدعوة ، ولم يبق إلا القيادات الجديدة الشابة المستعدة لقبول الحق ، أضف إلى ذلك عدم وجود قيادة بارزة معروفة يتواضع الجميع على التسليم لها ، فكانوا بحاجة إلى من يأتلفون عليه ، ويلتئم شملهم تحت ظله .
ومن المعروف أن اليهود كانوا يسكنون المدينة مما جعل الأوس والخزرج على اطلاع بأمر الرسالات السماوية– بحكم الجوار- ، فكانوا اليهود يهددونهم بنبي قد أظل زمانه ، ويزعمون أنهم سيتبعونه ، ويقتلونهم به قتل عاد وإرم ، ولذا فبمجرد أن وصلت الدعوة إليهم ، قال بعضهم لبعض : ” تعلمون والله يا قوم ، إنه للنبى الذي توعدكم به يهود ، فلا تسبقنكم إليه ” .
ومن الدلالات أيضاً : أهمية معرفة الداعية والمربي لخصائص الناس وشخصياتهم ، ومن يصلح منهم لهذه المهمة أو تلك ، ندرك ذلك من خلال حسن اختياره – صلى الله عليه وسلم- لمصعب بن عمير للقيام بمهمة الدعوة ، ونشر الإسلام في المدينة ، لما كان يمتاز به رضي الله عنه – بجانب حفظه لما نزل من القرآن – من لباقة ، وهدوء ، وحكمة وحسن خلق ، فضلاً عن قوة إيمانه ، وشدة حماسه للدين ، ولذلك نجح أيما نجاح في دعوته ، واستطاع أن يتخطى الصعاب والعقبات الكثيرة التي واجهته باعتباره أولاً نازحاً وغريباً ، وثانياً يحمل رسالة جديدة تخالف ما عليه الناس ، وتريد أن تنقلهم من موروثاتهم التي ألِِفُوها ، وألْفَوا عليها آباءهم وأجدادهم ، ولعل في قصة إسلام سعد بن معاذ ، و أسيد بن حضير ما يبين ذلك بجلاء .
وهكذا مهدت هذه البيعة لما بعدها من الأحداث التي غيرت مجرى التاريخ ، وكانت إيذاناً بأن عهد الذل والاستضعاف قد ولى إلى غير رجعة ، وسيكون بعدها للإسلام قوته ومنعته ، ، وستتوالى على مكة مواكب الخير ، وطلائع الهدى والنور التي هيأها الله لحمل رسالته ، وتبيلغ دعوته ، والعاقبة للمتقينجعلنا الله ممن سار على دربهم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق